ماريا كالاس ومونيكا بيلوتشي أيقونتان في فيلم واحد

كيف يمكن للفنان التوفيق بين حياته الشخصية وحياته الابداعية؟ ماهو ثمن الشهرة؟ وماهو ثمن المجد؟

أسئلة كثيرة تحاول أن تجيب عنها النجمة الإيطالية مونيكا بيلوتشي من خلال استحضار شخصية ماريا كالاس المتفردة. أيقونتان في فيلم واحد ..

“ماريا كالاس ومونيكا بيلوتشي: اللقاء” فيلم وثائقي صدر عام 2023 من إخراج يانيس ديموليتساس، وتوم وولف، وبطولة مونيكا بيلوتشي التي قدمت قراءة حية لمذكرات ورسائل مغنية الأوبرا الشهيرة ماريا كالاس.
يعد هذا الفيلم تكريمًا لحياة هذه الأيقونة التي تركت بصمة لا تمحى في عالم الفن، ويمثل توليفة فريدة من السرد الوثائقي والأداء المسرحي الحي الذي أبرز موهبة مونيكا بيلوتشي.
عرض الفيلم في عدة مهرجانات دولية، مثل مهرجان سان سيباستيان السينمائي الدولي ضمن قسم “Perlak” في دورة 2024.

ومهرجان ثيسالونيكي السينمائي الدولي باليونان.
وحظي بتقدير واسع من النقاد والجماهير على حد سواء. إذ يجمع بين الصور الأرشيفية النادرة والرسائل الشخصية التي تسلط الضوء على ماريا كالاس كإنسانة وفنانة.

من خلال مذكراتها، ويكشف الفيلم عن الجوانب العاطفية والإنسانية في حياتها التي كثيرًا ما طغت عليها الأضواء والشهرة.

لكنها تخفي معاناة عميقة، تظهر أن وراء الأيقونة الساحرة إنسانة مرهفة كسرتها الظروف.

 

قراءة حية

ويروي الفيلم قصة حياة ماريا كالاس بأسلوب غير تقليدي. فبدلاً من سرد خطي تقليدي، يعتمد على قراءة حية من مذكراتها ورسائلها، التي كتبتها على مدار حياتها.

إذ تأخذ الرسائل الجمهور في رحلة عبر مشاعرها وتجاربها الشخصية، بدءًا من بداياتها المتواضعة في اليونان، مرورًا بصعودها الكبير في عالم الأوبرا، وقصة حبها العنيفة مع الثري أرسطو أوناسيس، وصولاً إلى صراعاتها مع الوحدة والحب.
وبالرغم من أن ماريا كالاس هي الشخصية المحورية للفيلم، لكن صوتها وأفكارها يأتيان من خلال أداء مونيكا بيلوتشي، التي نجحت في نقل روح النصوص بطريقة حساسة وصادقة. هذه الطريق سمحت للجمهور بالغوص مباشرة داخل عقل وقلب كالاس، مما أتاح فهم تعقيداتها كفنانة وامرأة استثنائية.
وأظهر المخرجان براعة فنية عالية في تقديم فيلم وثائقي يتمحور حول الحياة الداخلية لشخصية تاريخية. بدلاً من التركيز على سرد الأحداث بطريقة تقليدية، يعتمدان على الرسائل والمذكرات كوسيلة لنقل العمق النفسي لماريا كالاس. ولتحقيق هذا الهدف، تم استخدام لقطات بلمسات كلاسيكية تتناسب مع أجواء الفترة الزمنية التي عاشتها كالاس، مما جعل الجمهور يشعر وكأنه يعيش تلك اللحظات.
وجاء المونتاج سلسًا ودقيقًا، حيث تتداخل الرسائل مع الصور والمقاطع الصوتية لعروض ماريا الأوبرالية. ما ساهم في تعزيز الاتصال العاطفي بين الجمهور والقصة، وجعل السرد متوازنًا بين الحميمية والاحتفاء بالفن.
ولعبت الموسيقى دوراً مهما فكانت عنصرًا رئيسيًا في الفيلم. حيث استخدمت مقطوعات من أبرز عروض ماريا كالاس الأوبرالية، مثل La Traviata وNorma، مما أضفى عمقًا عاطفيًا وأبرز عبقريتها الفنية.
إن الموسيقى لم تكن مجرد خلفية، بل كانت جزءًا أساسيًا من القصة، حيث تعكس لحظات المجد والحزن في حيات فنانة كبيرة.

 

شيء مشترك

وكان الحديث عن كالاس في كثير من الأحيان يتقاطع مع الأيقونة التي تمثلها. فتناول الفيلم مجموعة من المواضيع العميقة التي تتعلق بحياة الفنانين وشخصياتهم الإنسانية عموما: فماريا كالاس هي مثال حي للثمن الذي يدفعه الفنان مقابل النجاح.

فرغم شهرتها العالمية، وحب الملايين، يظهر الفيلم معاناتها من الوحدة وصراعات داخلية عميقة. هذا الثمن يظهر بوضوح في رسائلها التي قرأتها بيلوتشي بإحساس مرهف، يعكس شعورًا مستمرًا بالفراغ العاطفي.

ليس هذا فحسب، بل قدم الفيلم صورة واضحة للتحديات التي واجهتها كالاس كامرأة في عالم كان يسيطر عليه الرجال. فاستعرضت بيلوتشي نضالها من أجل الحفاظ على استقلاليتها الشخصية والفنية، مما يجعل قصتها ملهمة للنساء في جميع المجالات وفي جميع الأزمنة.
ويعكس الفيلم أيضاً، كيف أن التفاني الكامل للفن يمكن أن يأتي على حساب العلاقات الشخصية. فرسائل ماريا تكشف عن معاناتها مع التوازن بين حياتها كفنانة وعلاقاتها العاطفية، ما جعلها تدفع ثمنا غاليا.

وقدمت مونيكا بيلوتشي أداءً استثنائيًا بفضل صوتها العميق وأسلوبها الهادئ، ونجحت في تجسيد روح ماريا كالاس بطريقة صادقة وحساسة. إذ لم يكن أداء بيلوتشي مجرد قراءة للنصوص، بل كان تعبيرًا عاطفيًا يعكس المشاعر العميقة الموجودة في رسائل كالاس.
ومن أبرز اللحظات في الفيلم تلك التي تعبر فيها بيلوتشي عن حزن ماريا كالاس العميق على حبها الضائع، حيث أظهرت بيلوتشي مهارة كبيرة في نقل الألم الداخلي دون مبالغة.
وتمكنت من نقل السياق الثقافي والاجتماعي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت ماريا كالاس رمزًا للتجديد الفني والعالمي. كما أبرزت دور الفن كوسيلة للتعبير عن الهوية والانتماء، خاصة بالنسبة للأفراد الذين يعيشون في ثقافات متعددة. فكالاس، التي عاشت بين ثقافات متعددة، دائمًا ما كانت تشعر بأنها عالقة بين عالمين. هذا الانقسام الداخلي يظهر في رسائلها، حيث تتحدث عن الحنين للوطن والشعور بالغربة حتى وهي في قمة مجدها.
“ماريا كالاس ومونيكا بيلوتشي: اللقاء” هو أكثر من مجرد فيلم وثائقي. إنه رحلة إلى أعماق روح ماريا كالاس، التي رغم شهرتها العالمية، كانت إنسانة تحمل في داخلها مشاعر معقدة وصراعات داخلية. بفضل الإخراج المتقن، وأداء مونيكا بيلوتشي المؤثر، نجح الفيلم في تقديم صورة صادقة وحميمة عن هذه الأيقونة.