ماذا يحدث في السودان ؟ اليك الملخص

استيقظ العالم العربي اليوم على اخبار متناثرة هنا وهناك عن حرب دائرة داخل السودان، دون أن يقدم أي اعلام عربي الإجابة أو المعلومة .. الكل يتسائل ماذا يحدث في السودان ؟ ولا اعلم يجيب .. ولا حتى الاعلام السوداني نفسه.

المسألة باختصار أنه أيام المعارك في دارفور، الدول الأجنبية فرضت حظر على تدخل الجيش السوداني في معارك مع المدنيين.

ولذلك قامت حكومة البشير وقتها بتكوين ميليشيات مرتزقة إسمها “قوات الدعم السريع” لتقوم بجميع المعارك ليبقى الجيش السوداني خارج المسائلة.

المشكلة أن الميليشيات المسلحة تضخمت وأصبحت تطالب بنصيب في حكم البلاد (راجع أفعال حزب الله في لبنان).

ولذلك بدأ الصدام بين الدولة والجيش النظامي من ناحية وميليشيات قوات الدعم السريع من ناحية أخرى.

المأساة أن هناك دول أجنبية تدعم هذه الميليشيات على رأسها: أثيوبيا.

ويقال أن دولة الإمارات لها استثمارات كبيرة في مناطق مناجم استخراج الذهب وتعتمد على هذه الميليشيات في حماية استثماراتها وتأمين خروج الذهب المستخرج من السودان بعيدا عن رقابة من الحكومة السودانية.

وبسبب الأصابع الأثيوبية في الموضوع .. يتم تأجيج المشاعر السودانية ضد مصر

حيث تدّعي الميلشيات أنها تقاتل لمنع مصر من احتلال السودان أو السيطرة على مقدراته.
ولذلك قامت باحتلال قاعدة مروي العسكرية حيث تتواجد قوات جوية مصرية تقوم بتدريبات مشتركة مع السودانيين.

العمق الاستراتيجي الجنوبي لمصر يمتد حتى جنوب السودان، ولذلك تشكل أي أعمال فوضى هناك عبئا على مصر

حيث تتكلف تدابير ومصاريف إضافية لحماية جنوبها (راجع سبب إنشاء قاعدة محمد نجيب العسكرية وقاعدة جربوب البحرية لمعادلة انهيار دولة ليبيا).

 

ما سبق كان الملخص .. لو كنت متعطشا للمزيد اكمل المقال

لماذا كل ما يحدث في السودان فجأة ؟ ومن هو حميدتي؟

 

ما يحدث في السودان من مواجهات عسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع هو نتيجة منطقية لربع قرن من ‘‘تفتيت‘‘ القوة العسكرية.

 

محمد حمدان دقلو ‘‘حميدتي‘‘ قائد قوات الدعم السريع والذي يستعرض قوته الآن بقصف مقرات الجيش السوداني ومحاصرة مواقعه، هو بالأساس ‘‘مجرم حرب‘‘.

لا هو التحق بكلية عسكرية ولا تلقى تعليمًا أكاديميًا عاليًا، بل هو تاجر إبل، ساقته الظروف لكي يتحوّل إلى رأس حرب في واحدة من أبشع عمليات الإبادة والتطهير التي جرت في منطقتنا العربية.

كان ذلك في دارفور عام 2003، عندما قامت ميليشا ‘‘الجنجويد‘‘ المشكّلة على أساس عرقي، باستهداف الحركات المسلحة، التي نشأت للدفاع عن القبائل ذات الأصول الإفريقية المهمشة في حسابات الثروة والسلطة، من الزغاوة والمساليت.

فكان خيار الرئيس السوداني عمر البشير ليس التوصل لصيغ اندماج جديدة، بل إذكاء الصراع العرقي، وتحويله لحرب مفتوحة بين القبائل العربية/ الإفريقية، ولما كانت قوات الجيش السوداني في حالة من انعدام الكفاءة، فقد سمح لقطاع الطرق والمجرمين من القبائل العربية بتشكيل قوات موازية تكون اليد الخفية في عمليات التطهير.

 

ما معنى الجنجويد ؟

فكان أن ظهرت إحدى أسوأ الميلشيات سمعة ‘‘الجنجويد‘‘.

وهي اختصار لكلمة ‘‘الجن راكب جواد شايل جيم ( بندقية ألمانية) ‘‘.

ما هي تداعيات حرب دارفور؟

450 ألف إنسان قتلوا في أعمال العنف على يد الجنجويد..وبدأ المجتمع الدولي بالالتفات للكارثة، فلم يجد البشير حلًا سوى غلّ يد الجنجويد والسماح لقوات تابعة للإتحاد الإفريقي بالدخول بصفة مراقب.

 

باقي القصة كان مروعًا.. ‘‘حميدتي‘‘ الإسم الأبرز حاليًا في كل وكالات الأنباء، لم تعجبه فكرة ألا ينسب سحق حركات التمرد في دارفور إليه، وثار غضبه عندما انقطعت رواتب جنوده لأكثر من ستة أشهر.

أما نقطة الإنفجار فكانت تعيين البشير ل ‘‘ميني مناوي‘‘ المنتسب لقبيلة الزغاوة مستشارًا له، فتمرّد بنفسه على رب نعمته، الرئيس السوداني.

 

رد فعل حميدتي على البشير

جيري فلينت يشرح التمرد تفصيلًا في ورقته البحثية ‘‘ ما بعد الجنجويد: فهم ميلشيات دارفور‘‘ الصادرة عن معهد مسح الأسلحة الصغيرة في سويسرا.

بدأ حميدتي ثورته في أغسطس 2007، حيث انشّق بأكثر من سبعين مركبة ثقيلة مدرعة، وأسّس بالتحالف مع مهندس كومبيوتر يُدعى ‘‘أنور خاطر‘‘ الجبهة الثورية السودانية SRF.

بل إنه خدع الحكومة السودانية عندما أعلن أنه سوف يشارك في الهجوم على معسكرات ‘‘حركة العدل والمساواة‘‘ في منطقة حسنكيته في دارفور، ولما أمدّته الخرطوم بالمركبات والسلاح، استولى عليها واستخدمها ضد الحكومة نفسها.

 

غلطة الشاطر بألف

كيف يتصرف البشير؟ يقمعه؟

لأ..بشكل شديد المذلّة..انصاعت الحكومة لتمرده وتحقّق حلم حميدتي ليس فقط في أن ينال كل المستحقات بأثر رجعي..لأ..بل لأنه حمل لأول مرّة لقب عسكري‘‘ عميد‘‘.

وتحوّل من قاطع طرق وتاجر إبل ومجرم حرب إلى قائد عسكري في غمضة عين.

 

وبالطبع سيعود حميدتي لتقديم خدمات للبشير في دارفور من جديد.. يذكرها تفصيلًا الباحث السوداني ‘‘البدوي عبد القادر البدوي‘‘ في ورقته الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في الدوحة، تحت عنوان ‘‘ قوات الدعم السريع السودانية: من ميليشيا إلى قوة نظامية‘‘.

قوات الدعم السريع ستحقق انتصارات عسكرية لاحقًا على فصائل التمرد في معارك عدّة.

معركة دونكي البعاشيم في 2014 ضد قوات تحرير السودان فصيل أركو مناوي..

ومعركة قوز دنقو ضد حركة العدل والمساواة في جنوب دارفور 2015..

معركة فنقا في وسط دارفور..وغيرها من معارك أمّنت للبشير هدوءً مفروضًا بالحديد والنار في دارفور.. معارك كذلك أثبتت الكفاءة القتالية لتلك الميلشيات، لكنها ليست كفاءة المقاتل العسكري، بل كفاءة المجرمين الذين يدخلون الأرض ويحرقونها ويرتكبون في حق سكانها أبشع جرائم السرقة والنهب والاعتداءات الجنسية.

وما الذي يستفيده حميدتي؟

فوق شرعية الاعتراف به كعسكري، لامتيازات المالية العملاقة

.ابن عم حميدتي هو ‘‘موسى هلال‘‘ وهو ناظر عرب المحاميد في شمال دارفور، الفرع الأكبر من قبيلة الرزيقات.

وكلاهما من قادة الجنجويد التي ارتكبت أعمال الإبادة في دارفور.. الصلات القبلية والحربية استحالت عداءً نافرًا، عندما اصطدم الطرفان في مرحلة توزيع غنائم الحرب، وبالأخص حول منطقة غنية بالذهب وهي جبل عامر.

وبعد صراع كلّف ألف قتيل وتشريد 150 ألف من جبل عامر الواقع في دارفور، حسم حميدتي المعركة لصالحه، واستولى على الجبل الغنى بالمعدن النفيس.

كم بلغت العوائد خلال عامين فقط 2014-2016 ؟

120 مليون $ ذهب القسم الأكبر منها لحميدتي وميلشياته.

 

ماذا بعد انتصارات حميدتي ؟

الرجل أثبت ولاءه في محطات متنوّعة وكوفيء ماليًا وعسكريًا..لكن المكافأة الأعظم هي تحويلي مليشيات دموية إلى قوة عسكرية رسمية معترف بها.

ولأول مرّة عام 2013 تم تحويل الجنجويد بموجب قانون رسمي إلى ما يُعرف ب ‘‘قوات الدعم السريع‘‘ ويشرف عليها جهاز المخابرات السوداني وليس الجيش الذي رفض عبر رئاسة أركانه انخراطها في الجسد العسكري.

وكان هذا ملائمًا لعمر البشير، الذي يعلم طريق السلطة في السودان جيدًا منذ الجنرال إبراهيم عبود في الخمسينات لجعفر النميري له شخصيًا.. القوة العسكرية !

فكان يحرص على إدامة الفصل بين قوة نظامية يعلم أنها المنافس الأوحد والمهدد الأول له ‘‘الجيش‘‘ وقوة ميلشياوية وهي الدعم السريع توفر له الحماية الشخصية وتساعده على كسب معاركه غير النظيفة.

فظهرت الازدواجية منذ عشر سنوات..

جيش رسمي للدولة..وقوات ميليشاوية اكتسب صفة نظامية وهي الدعم السريع، على رأسها حميدتي الذي أطلق عليه البشير ‘‘حمايتي‘‘ بعد أن ساعده في حسم معركة داخلية ضد صلاح قوش.

 

انقلاب حميدتي على البشير

وما بدأ عام 2013 كقوة من 5000 جندي، انتهى ليصل إلى قرابة 40 ألف جندي هو قوام قوات الدعم السريع.

من بدأ كرفيق درب وحامي للبشير وشريكًا له في حروبه في دارفور، انتهى شريكًا في الإطاحة به بعد ثورة 2019.

حمدان دقلو الذي غسل سمعته شعبيًا عندما انحاز للمظاهرات شكليًا..وبالطبع كان الانحياز للمظاهرات قرار تكتيكي وليس استراتيجيًا..والوجه القبيح لقوات الدعم السريع سيعود للظهور بعد المشاركة في مجزرة القيادة العامة وقتل مئات السودانيين..اتفق الطرفان في باديء الأمر الجيش وقوات الدعم..وتقاسما السلطة بعد إسقاط البشير، عند تشكيل مجلس السيادة الذي ضم المكونين المدني والعسكري، بحصة 6 عسكريين وخمسة مدنيين..حيث احتفظ البرهان قائد الجيش برئاسة المجلس، وحميدتي بمنصب نائب الرئيس..لكنه سلام الصقور.

 

سلام من يستغل الهدنة الشكلية في تعبئة قواته وحشد أحلافه الإقليمية والدولية من أجل المعركة الفاصلة في الصراع على مستقبل السودان المتعثر، على من يحكم؟ على ‘‘ من يخضع من‘‘ في هيراركية ما بعد البشير؟ وبالتدريج انفجرت الخلافات، خصوصًا مع توقيع اتفاق جوبا الذي ينص على دمج قوات الدعم السريع داخل الجيش السوداني والقضاء على إزدواجية القوة العسكرية..صيغة الدمج ذاتها وهي محل خلاف شديد، أخرجت قائد قوات الدعم لأول مرة من انضباطيته الكلامية بتصريح يعكس حقيقة الإنقسام عام 2021 بأن الدمج سيؤدي لتفكيك البلاد..بنفس النصّ..التفكيك..ثم جاءت الصيغة التي طرحتها القوات المسلحة السودانية في نقاشاتها حول طبيعة إدماج الدعم السريع قبل أسابيع..لتأخذ الصراع لمرحلته القصوى..الإنتقال من حروب المكاتب والبيانات، لقتال الميادين و الشوارع.

 

محاولات فاشلة للدمج

 

البنود المقترحة من الجيش كانت تدور حول منع التجنيد في قوات الدعم السريع، وتسريح كل من التحق بالخدمة فيها بعد إبريل 2019، ووقف انتشار قواتها إلا بموافقة الجيش السوداني، وتسليم كامل عتادها العسكري للجيش، وخضوع شركاتها واستثماراتها الكبرى مثل شركة ‘‘الجنُيد‘‘ التي تدير تجارة الذهب لرقابة وزارة المالية..وهذه بنود لم يتفق عليها بشكل نهائي بين المكونين المدني والعسكري ولم يُحدد إطار زمني لتنفيذها..لكن أثارت غضب الدعم السريع الذي سيجد نفسه للمرة الأولى حال تطبيقها رهينة الإشراف العسكري والرقابي الحكومي..وهذه سلسلة ما إن تبدأ لن تتوقف، ويعلم حميدتي أن تمرير تلك الصيغ، سيطاله في النهاية ليس فقط موقعه، بل سلامته الشخصية..فكان الصراع محتومًا..صراع على شبكات تحالفات محلية/ قبلية/ جهوية/ عسكرية تحاول أن تبنى لنفسها خلال السنوات الأربع الماضية سمعة دولية تغسل بها ماضيها وتقدم نفسها كبديل ينفذ الإتفاق الإطاري لتقاسم السلطة..صراع على السودان ذاته.

 

السودان أمام نقطة منطقية تمامًا، رغم أنها شديدة الأسف..والنزاع الدموي الحالي بين ‘‘الجيشين‘‘ هو انفجار لمعركة مؤجّلة منذ عشرين عامًا..ضعف فيها طرف، وقوى فيها الآخر، حتى وصلا إلى نقطة تعادل، لم يعد فيها رجال العصابات السابقون يقبلون بدور الشريك الأصغر، بل يطمحون لسيطرة مطلقة تؤمّن شبكاتهم الزبائنية وتحالفاتهم الإقليمية..لكن السودان في وضع بالأساس شديد التدهور..وما إن يتوسّع ذلك النزاع، فلن يقتصر على جيشين متحاربين، بل ستصعد كل المطالب المكتومة لتعبر عن نفسها عسكريًا من الشرق للجنوب..وتصبح حرب الكل ضد الكل..وللسودان تجربة مريرة فيها..ومؤداها المستقر أن لا أحد ينجح..فقط السودان يتشرذم..الباقي من السودان على نحو أدّق..كان أمام السودان فرصة تاريخية للتحول المدني عام 2019، لكن الطرفان، البرهان وحميدتي لم يدخرا جهدًا للتآمر على طموحات ملايين السودانيين..ولم يتبق لهما سوى حرب مفتوحة بينهما تعيد ترسيم القوة على أجساد بلد ممزق فقير.

 

ماذا يحدث في السودان

لكن

لأن

لكن